د.صلاح فاروق العايدي
هنا العريش.. تحديدًا في شارعها الرئيسي الذي يبدأ من عند جامع النصر وينتهي عند جامع الرفاعي، وبينهما صفان طويلان من المحلات التجارية، بما في ذلك سوق السمك الذي يميز العريش بأنواعها الخاصة من موائد البحر. وبين جامع النصر وجامع الرفاعي، وتحديدًا في المنتصف حديقة المالح التي تقع في ميدان المالح، وإلى جوارها قهوة العماد. وهذه هي ما أريد أن أحدثك عنه. “قهوة العماد” تمثل الذاكرة الثقافية في العريش، مثلها مثل” زهرة البستان” و”ريش” في قلب القاهرة. عليها يجلس متعاطوا الأدب مع الفنانين، يتبادلون أخبار الأدب والفن، ويقرأون الصحف القليلة التي تصل العريش، عند المتعهد الرسمي الوحيد لمنتجات الفكر: الشعراوي، ومن أخبار الأدب والفن ينتقلون إلى تخطيط الأمسيات الأدبية والثقافية، وقد يتشاركون في بعض الأعمال.. فإذا فاض بهم الشوق فإنك تسمع هذا يغني وذاك يرد عليه بقصيدة.
إما في موسم السياحة والصيف فإن المصطافين يشاركون هؤلاء وأولئك الجلوس على المقاعد الخارجية ليلتقطوا أنفاسهم من التجوال الطويل بين المتاجر والأسواق. وإذا ما أراد أحدهم شيئا لم يعثر عليه فإنه يسأل اقرب الجالسين إليه: أين يجد زيت الزيتون الجيد والمرمرية؟ وأحيانا يسأل عن الزعتر، كما يسألك كيف يحمل أنواعا من السمك لفتت نظره في تجواله؟ يعني أن يصل به سليمًا معافى إلى دياره، فيتطوع بعض الجالسين بالإشارة إلى هذا المحل أو ذاك مما يجد فيه مطلبه. فإذا وصلت الساعة العاشرة مساء، فإن إيقاع الحياة يهدأ والخطوات تخف، ويبدأ الرواد في الانصراف إلى منازلهم لتبدأ في الغد دورة جديدة للحياة، منها نعرف من عاش ومن مات، وفيها نؤدي الصلوات في المساجد القريبة، ومن العماد يبدأ الانطلاق صباحًا إلى أعمالنا، وإليه تنتهي خطواتنا في الظهيرة، فهو كما يقال: سرة البلد، يقع في منتصفها تماما، ولابد أن تمر به أيًا يكن مقصدك، فهو بجوار المجلس المحلي ومديرية الثقافة ومجمع المدارس والبريد والسنترال… إلخ ، باختصار العماد هو ذاكرة البلد، كم مر به من أصدقاء وكم مر به العابرون، فاستقبل هذا وودع ذاك، وشهد تحول الحياة وتطوراتها، شهد افراح العريش وشهد أحزانها وأزماتها، وفي ذاكرة رواده مشاهد حية عن ذلك كله، و في أعينهم بقايا صور تحمل ريحة المكان وخصوصيته .. وصباح الخير يا سينا..